أنفلونزا الجَمال .
ممّا لاشكّ فيه أنّ النّفس الإنسانية مجبُولةٌ على حُبّ قيمة الجمال، فبها ومعها تسمُو الرّوح ُوالوجدانُ سواء تعلّق الأمرُ بالجمال المعنوي أوالجمال الحسّي .
على الرّغم من أنّ مظاهر الجمال المعنوي تغمر الكون وتغشى الوجود إلاّ أنّ ثقافة عصر الصّورة المعيش تركز اهتمامها غالبا على الجمال الإنساني الحسّي ،الذي كان إلى وقت قريب نابعا من بيئته ومحيطه، تختلف معاييرُه ومقوّماتُه باختلاف تراثه و جغرافيته ، فلم تكن للجمال وحدة قياس عامّة كما نلمسه اليوم في الكثير من المجتمعات ، فما كان محمودا من الصّفات في مجتمع ما كان معيبا في مجتمع آخر، من ذلك مثلا شحوب الوجه والأسنان السّوداء اللّذان اعتبرا قديما من سمات الجمال في انجلترا واليابان بينما كان الحال معكوسا ولازال في المجتمع العربي . .
اليوم في زمن العولمة أصبح الجمال"نسبيا" مُوحّد المعايير والمقاييس ،فقد جرفت ريحُها العاتية هوّية الكثير من المجتمعات وأرست منظومة قيم غربية مُعتمدة في الأساس على سحر وفتنة الصّورة .
شئنا أم أبينا دخلت الصّورة ــ في العصر الحالي ــ في صميم التّكوين النّفسي والثّقافي للمجتمع، فهي تخترق الوعي وتُعيد تشكيله ومن ذلك تشكيل تصوُّرات النّاس عن الجمال الإنساني، حاصرةً إيّاه في جمال المظهر الذي ترسم ملامحَه وتحدّد مقاييسَه إعلانات وسائل الإعلام المتدفّقة والمُروّجة لبضائع الصناعة التّجميلية التي ترفع شعارها البرّاق : "َأنت لستَ قبيحا أنت فقط فقير" ليتكفل عارضو الأزياء والفنّانون ونجومُ المُجتمع بتسويق نظرتها الجمالية ،الأمر الذي نتج عنه ظاهرة التشّبه بالمشاهيرــ خصوصا في عالم المراهقين ــ والإقبال على عمليات الاستنساخ ألتجميلي التي ساعدت على تنميط الجمال وتوحيد ملامح وجوه وصفات أجساد أضحت مُتشابهة كمُنتجات تخرجُ من نفس المصنع. .
لعلّ ما يُبرز خطورة ثقافة الصّورة انتشار حُمّى وأنفلونزا تقليد الدّمية "باربي " التي انتشرت في صفوف الكثير من المراهقات بعد عرض فيلم "باربي " الذي أثار الكثير من الجدل و طرح معيارا جديدا للجمال ... "جمال باربي"مما أدّى إلى إصابة البعض بهوس التشبّه بالدّمية ومطاردة ملامح جمالها البلاستيكي عبر الخضوع لعمليات تجميلية
متطوّرة أسعدت وأرضت هوس مُراهقة أُوكرانية،بعد أن تحوّلت إلى نسخة من الدُّمية... صار لبشرتها ملمس البلاستيك وأضحت كما تقول الأغنية الشهيرة :
أنا فتاة باربي الوردية
وبالنّسبة لمن تعجزه تكاليفُ العمليات التّجميلية فإنه يجد سلواهُ في تقنية تعديل الصّور وبرامج الفوطوشوب والذكاء الصناعي التي تبرز جمال طلّة وهمية مُتكلفة ،كما تؤدي إلى انتشار ظاهرة الاستعراض الجسدي في مواقع التواصل الاجتماعي ،وهي الظاهرة التي حذّر منها عالم النفس "رينيه انجلن"في كتابه" مرض الجمال" إذ أثبت أنّ تصفّح صور النّاس ـ المثالية ــ المتدفّقة على تطبيق "الانستغرام" تجلب للمراهقين خصوصا مشاعر الدّونية ،تدني تقدير الذات وعدم الرّضا عنها . .
إنّ التّهافت على عمليات التّجميل من النّساء والّرجال يُعدّ مظهرا من مظاهر تسليع الإنسان ، فكل شيء له ثمن، وكل شيء قابل للبيع و للاستثمار في سوق نخاسة جديد وفسيح يُشيّئُ الإنسان بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة، إذ تُركّز إعلانات الشركات والمصانع الكبرى على الجسد الأنثوي فهو المكشوف غالبا والحاضر دائما في جميع الإعلانات حتى لوكأن الأمر خاصّا بالمُنتجات الرّجالية . . .
ومن بين مظاهر تسليع جسد المرأة مسابقة "القمصان المُبلّلة" المتضمّنة لسلوك استعرائي قائم على رش الماء المثلج على أجساد أنثوية مبتذلة ،تسعى إلى استثارة جمهور الحاضرين ونيل أكبر عدد من لايكات الإعجاب ، ومن هنا تسقط بعض النساء من حيث لا يدرين في فخ التّشيّؤ الأنثوي الذاتي حيث يتم فيه استبعاد القدرات العقلية وتشويه أنوثة المرأة التي تحصر في مجال الإغراء والجمال الجسدي رغم أنّ هذا الجمال يلفت الأنظار ولا يلفت القلوب المضيئة و المُترعة بنشوة جمال الجوهر الذي يبصره الأعمى ، تطيب به الشمائل وتستعصي حليتُه على سيلكون وإبر أطبّاء التّجميل. فوحده جمال الروح الذي يهب الإنسان بهاء الشّعور بالقيمة ، كما أنه يُمكّنه من التصالح مع ذاته و من فكّ أغلال جمال المظهر التى أحكمتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حيث غدا معها الإنسان بئيس الجوهر ،مثله مثل الشّجرة الكاذبة " شجرة الدّفلى" التي تغري أزهارها الجميلة وظلالها الوارفة العين بالنّظر إليها مع أنّها تخفي مرارة أوراقها و ماء وردها ، ورغم أنها شجرة كاذبة إلا أنّ وُرودها البديعة تفوح بأريج الحكمة .. فمهما تجمّل الإنسان ومهما كذب ــ وهو يتجمّل ــ فإنه بدون جمال السّلوك يكون كزهر لا شذاء له....
بقلم : حنان قدامة