الفَرَاولةُ المُرّة.
كان وجهُها مُتهلّلاً بالبِشر وهي تَنزلُ من العَربة المَجرورة في رحلة عودتها إلى القرية الجبلية ُرفقة زميلات لها من نِساء الفراولة .
" أخيراً ستُرحّبُ بهاHUELVA أخيراً رضِيت عنها
حقوُل الفراولة في الرّيف الاسباني .
وهي في الطّريق إلى المنزل خاطبت جارتَها وصديقتها:
كدتُ أفقدُ الأمَل من جديد ،خفتُ أن يُرفضَ طلبي، لذلك تعمّدتُ أن أنتعل حذاءً دون كعب حتّى أُخفِي طولَ قامتي.
عقّبت الجارةُ مُستغِربةً :
لم أفهَم..ماعلاقة ُطُول القامة بالرّفض أو القَبول ؟
ردَّت سعدية قائلةً: علمتُ أنّ طويلاتِ القامة غيرُ مُفضّلاتِ في ضَيعات الفراولة ،فهنّ يجدن صُعوبة في رفع الصّناديق. بكُلِّ ثِقة أردَفَت الجارةُ:
أنا كنتُ مُتأكّدةٌ من قبَول طَلبينا.... كفى بأيدينا المُتشقّقتينِ دليلا على خِبرتنا في قَطف الفراولة كانت "سعدية "أمّا شابّة تَرَمّلت بعد خمس سنوات من الزّواج لتتولى مسؤولية رعاية ولديها وأُمّها المُسنة، .اعتصرتها تكاليفُ الحياة ونبذتها طلائعُ السّعد الذي لم تعد تملكُ منه إلا حروف اسمِها.
في فصل الرّبيع كانت حُقولُ حوض اللوكوس تستضيفُها بضعة أشهر، لم يكن جَنَى تُوته كريمًا معها، فانحناؤها طيلة ساعات النّهار لا يُلبّي أدنى نفقاتِ الأُسرة ،لذا قررّت أن تُهاجرَ إلى حُقول الأندلُس عسى ذهبها الأحمر يحنو على انحِنائِها. .
حانَ موعدُ الرّحيل عن الأهل والدّيار ،ليلته جفاها المرقدُ ،لم يُغمض لها جفنٌ، تسلّلت إلى غرفة ولديها واستلقت بالقرب منهما لتتطيّبَ بأنفاسِهما ولتُشبعَ نظرَها منهما ،فغدًا ستحجُبُهُما "ولبة"عن ناظرها .
كانت الشّمسُ على وشك المَغيب عندما وطَأت
ظلُّت نساءُ الفراولة المغربيات يُشكّلن أغلبية َالمُهاجرات، تشفع في الإقبال عليهن أيَاديهنّ المُخضّبة بحُمَرة الفراولة.
أطلّت شمسُ الصّباح الأوّل في "ولبة" كانت حقولُها مُمتدة ًعلى طول النّظر... بساتين مُشرقة وظلالٌ وارفةٌ تهبُّ نسماتُ الفراولة الزّكيةُ من مُروجها التي ارتدت حُللاً سُندُسية. .
خضعت" سعدية" ومعها مُهاجرات اللُّوكوس لفترة تجريبية اجتزنها بنجاح ليبدأ مِشوارَ انحناء الظّهر في بلاد الأندلس . كان جنيُ التّوتِ الأحمر يستغرقُ سبع ساعات، مع راحة لمُدّة نصف ساعة. في العطلة الأسبوعية ــ يوم الأحد ــ كانت تذهب للتبضّع من المدينة القريبة ،تركب غالبا مع الخطّافة -لانعدام المواصلات .
كانت نساءُ الفراولة يتغلّبنَ على وطأةِ الغُربَة ووَطأة ِالانحِناء بشَدو أغاني الحَنين إلى الوطن ، تتعانق الأنغامُ الحزينةُ مع الطّبيعةِ الفاتنةِ فتصدحُ في َروابِي الفراولة موسيقى "المرياتشي المكسيكية " و"السالسا الكوبية"وتردّدُ جبالُ الأندلُس صدى العيُّوع الجبلي الذي تترنُّم به" سعدية" وهي تبُثُّ أوجاعَ الهجرِ والفراقِ :
شدّاني نهجر شدّاني
كنبكي ونتفكّر عشراني
لترُدًّ عليها أوجاعُ الجارة صَارخةً :
لاخَيمة لا سُكنى بحال صحَابِي
ما عندي زهر وهذا مكتابي وهي تقبضُ أُولى أُجرتِها الأسبوعية استفسرها "الخيفي ":
ــ كم كان أجُرك اليَومي في حُقولِ بلدك
على استحياء أجابت "سعدية":خمسون درهما " .
فاغراً فاهُ من الدّهشة استطرد "الخيفي "قائلا :في إمكانك أن تُوفّري في "ولبة "مبلغا مُحترما، فهُنا مُمكن أن تَحصُلي في اليومِ الواحدِ على مبلغ أربَعُمائة درهم.
لم تُعقّب"سعدية "على قيمة المبلغ الكبير، انحنت تقطفُ فاكهةَ الحظّ وكُلُّها رجاء في أن يُشفقَ على حالها تُوتُ أَرضٍ ولبة
بعد مُضيّ أربعة أشهُر عادت "سعدية "إلى قريتها سعيدة، فقد جنَت من جَني الفراولة مبلغا مُهمّا أنفقت جُلّه في ترميم منزلِها الآيل للسّقُوط.
تكرَّرت هجرةُ"سعدية" إلى "ولبة"مع إطلالةِ كل ّ ربِيع .
في موسمِ هجرتِها الخامسِ بدأ يُساورها القلقُ من سُلوكيات ابنِها البِكر،فقد حَملَت إليها أخبارُ القريةِ واقعَ تغيُّبٍه عن المدرسة وتأخُّرِه في العودة إلى المنزل ،برجوعها إلى البلدة استقبلها خبرُ رُسُوبه وخبر إقباله على شمّ مُخدّرغاز الضّحك الذي استجداهُ "الابن"بهجةً تُنسيهِ وحشةَ البيتِ دُون أُمّه. تهاوت استقامة الفتى أمام أوّلِ شمّة لغاِز الضّحِكٍ الذي أبكاهُ فيما بعدُ وأبكَى والدتَه .
لم تنهزم "سعدية "أمام إدمَانِ ولدِها احتَضَنتهُ ووقفت بجانبه لم تُطاوعها أمُومُتها في أن تتُركَه ُيُصارعُ ريح َ الإدمانَ العاتية وحده لتُودّعَ "سعدية"حقُولَ الفراولة في"ولبة" ولِتعُودَ للانحناء ُمجدّدا في حوض اللّوكوس بعد أن تأكّدت من أنّها طيلة سنوات الاغتراب لم تَجنِ من مزارع الأندُلس سوى فراولة مُرّة . .
