حٌبُّنا السائل.
" معا إلى الأبد... لن يفرقنا إلا الموت " كلمات ليست كالكلمات...كلمات لطالما غازل بهاء معناها مشاعرنا وداعب وجداننا .على الوفاء به تعاهد الأحباء وتعاقد الأخلاء، لكن هذا التعبير الناهل من ينابيع الحب الصافية والمتشرب بقيمة الإخلاص ، خفً اليوم تردده في صدى الحياة في زمن سائل ضعفت فيه صلابة الروابط المجتمعية التي أصبحت في المجمل هشة و مبنية على النفعية والمصلحة.
الحب بمفهومه الشامل هو إكسير العلاقات الإنسانية ، سواء منها العلاقات الأسرية ، الوظيفية أو الشخصية، هو الذي يمنعها من الانغلاق والتصادم بفضل جذور شجرته الصلبة
فدائما كانت قيمة الحب مرتبطة بالاجتماع البشري... نتواجد مع الآخر ونتواجد من أجل الآخر... كانت المحبة تتسع داخل ذواتنا... تتمدد خارجها ليرتشف رحيقها الآخرون . نشاركهم بهجة فرحهم وآهات ترحهم ،
لكن الهشاشة التي تتسم بها العلاقات الإنسانية اليوم ، بما فيها رابطة القرابة، تكاد تحول المجتمع إلى مجرد تجمع بشري تجمعه جغرافية المكان ، يتوهج فيه القرب الافتراضي ويخفت فيه القرب الطبيعي... يكاد صدى جدرانه يردد بيت الشاعر" ابن زيدون.
أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا .
بكل شراسة زحفت علينا الهشاشة ، دمرت ما كانت تتحلى به العلا قات الإنسانية من عاطفة واستمرارية، فقد فيها الحب صلابته، فغدا سائلا... مائعا حسب عالم الاجتماع الشهير"زيجمونت باومان" .
إن سمة الحب السائل في العلاقات الاجتماعية في واقعنا المعاصر لها ارتباط بعدة عوامل، من بينها ما يتعلق بالثقافة الاستهلاكية السلبية التي تنامت بشكل متسارع في العقود الأخيرة واقتلع تيارها الجارف الكثير من القيم والمبادئ والعادات...
على أنقاضها برز التوجه المادي والنزعة الاستهلاكية.. اشتد عودهما حتى أصبح استهلاك المنتجات مقياسا لجودة الحياة ومدعاة للشعور بالرضا عن الذات والفخر بها .
لم تسلم قيمة الحب من طغيان الثقافة الاستهلاكية السلبية ..تم تسليعها وقُيم ثمنها ، أصبحنا ننظر إليها كمنتج استهلاكي يمكن استبداله عندما نشبع منه أو التخلص منه عندما تنتهي مدة صلاحيته .. نلقيه في صندوق القمامة ولا حرج في ذلك فقد صار من النفايات . لتنطلق رحلة البحث عن منتج جديد براق تلتقطه العين المتطلعة إلى لمعة البريق . .
تأثرت قيمة الحب بالنمط الاستهلاكي الذي فرضته علينا العولمة والثورة التكنولوجية.. نمط الوصفات السهلة والمنتجات الجاهزة .. نمط يستهجن كل قديم حتى ولو كان صالحا، بما في ذلك المشاعر والصلات والأجساد حسب تعبير الدكتور" زيجمونت باومان " الذي يسمي العلاقات النفعية بين الأشخاص اليوم علاقات" الجيب العلوي
" علاقات لا تسكن الفؤاد ولكن يحتفظ بها أطرافها في الجيب العلوي لسترتهم ، متى أرادوا التخلص منها أخرجوها من جيبهم كما يتخلص المرء من أي سلعة سئم منها و لم تعد تحقق له المستوى المطلوب من الاكتفاء و الإشباع. .
من جانب آخر ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في اجتثاث الجذور الصلبة للحب.. تحرشت بصفاء وسمو معانيه العلاقات والصلات الافتراضية.
ففي بحرها اللجي الذي لا تحده مرافئ يبحر الإنسان ، وهو غالبا يعي هشاشتها.. يدرك سيلانها.. فلا عهود ولا مواثيق تدعمها.. ولا أسرة تباركها كما في الروابط الواقعية .. التجمل والكذب -غالبا - ديدنها.. ومن ثمة فان أهم الأساسيات لبناء علاقة إنسانية ناجحة تظل في طي الكتمان.. قابعة هناك خلف الشاشات . .
الدخول في الصلات الافتراضية سهل... التواري عن الأنظار فيها سهل.. التخلص منها أيضا سهل.. فقط اضغط على زر الحذف وأخرج الصلة من جيبك العلوي . .
نتيجة لهذا الحب السائل الذي عصف بالمشاعر الإنسانية ، طفت مؤخرا فوق السطح ، خصوصا في أوساط المشاهير ظاهرة نشر غسيل العلاقات الزوجية والأسرية أمام الملا .. فضح أسرارها وكشف خباياها.. لا حرمات لها تمنع.. ولا أبناء منها تشفع..
لكن الاستثمار فيها أنفع.. فلا بأس أن يتم تسليعها والترويج لها في سوق مفتوح،. كثير الزوار، وفير الموارد ،لا يزال المعرضون عن ارتياده يأسرهم الحنين إلى العلاقات التراحمية ، يقتاتون الشوق إلى زمان الوصل .