كنت طفلة ،عندما تسللت إلى مسامعي رائعة الشاعر الفلسطيني محمود درويش "إلى أمي"تأثرت بعذوبة مطلعها:
أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي
وتكبر فيّ الطفولة يوما على صدر يوم
لمّا كبرت افتتنت به أكثر، واستوعبت سّر اندفاع محمود درويش الجارف نحو استحضار مرحلة الطفولة التي تعتبر مدخل ومشتل الصفات الإنسانية.
وأنا أستحضر طفولتي في هذا الحكي السردي، كان قلمي ــــ على غير عادته ـــ يرقص بين أناملي، يكاد يسابق فكري، تذكرت نعيمي الراحل... مروجه السندسية ...شساعة وصفاء ضحكاته .
كنت طفلة مدللة ـ نسبياـ اصغر إخوتي ،مشاكسة، مرحة ، عاشقة للموسيقى و اللعب ،يتناوب على طبعي تمرد ووداعة
حب الموسيقى والغناء أسرني ، تشربت قطراته من محيط أسرتي، إذ كثيرا ما كنت أسمع والدي ــ رحمه الله ـــ ينشد بصوته العذب قصائد فن المديح والسماع لا سيما قصائد "الشيخ الحراق" رحمة الله عليه ،وكان صدى الموسيقى الشرقية يتردد دوما في المنزل .
كنت أحفظ وأغنّي الكثير من أغاني عبد الحليم خصوصا أغنيتي "سواح" و"جانا الهوى"،كثيرا ما أديتهما أمام إخوتي وأقاربي حيث كنت لا أشرع في الغناء إلا بعد التفاوض على "مستحقاتي المادية ".
حلمت بدراسة الموسيقى، لكن عدم تشجيع والدي لي حال بيني وبين حلمي آنئذ،هذا الحلم الذي كبر بعد زيارة ما تزال بعض تفاصيلها محفورة في ذاكرتي كانت زيارة الموسيقار "عبد السلام عامر" رحمة الله عليه لأسرتي ،أذكر تجمع أفراد عائلتي الكبيرة حوله ،صمتهم المطبق وهم ينصتون إلى دندنة" عامر" بمقطع من أغنيته الجديدة ـــ راحلة ـــ لم أنس يومها خطاب أبي له :"ألم اقل لك يا عبد السلام ستصبح شاعرا بدون قافية ولا راوية "عجبت ساعتها لكلام والدي واستغربت من عدم تشجيعه لي . .
ميولي الموسيقية شجعها أستاذ الموسيقى رحمه الله،فذات مارس، وفي مدرسة" مولاي رشيد"، كان يدربنا على عدة أغاني بمناسبة عيد العرش، منها الموشح الأندلسي الشهير "جادك الغيث"،تكررت أخطاء الكورال وبدأ التعب يداهم "المايسترو" فما كان من أستاذي إلا أن حملني مسؤولية افتتاح المقاطع، وضعني في وسط الكورال حتى يسمعني جميع أفراده،سعدت بذلك، نجحت التجربة، وكنت أنا المنقذة من الضلال .
بسبب حبي للموسيقى ضُربت ــ مرة وحيدة ــ من طرف والدي .كان في سفر، ومنّيت نفسي باللعب مع أصدقائي ،كان سهلا علي مراوغة"ست الحبايب"التي ضعفت أمام شقاوتي لأجد نفسي في مرتعي: "حي الأندلس" بين أحضان أقراني حرة ،طليقة من رقابة أبي ، يغرد خاطري وينشد بعفوية غاب الرقيب..... وأنامنتشية بتغريدي طرق سمعي صوت فرقة موسيقية. تتبعت الصدى.. إنه موكب "الهدية"، سرت معه مبتعدة عن حينا ،وبينما أنا متماهية مع النغم الشعبي الفرح ،إذا بيد تقبض بقفاي من ورائي...حبست أنفاسي... فالرقيب عاد من السفرــ على حين غفلة ــ ومقام البياتي الموسيقي الذي طربت له سيحوله غضب ـــ السي احمد ــ إلى مقام الصّبا الحزين . .
أمرني والدي بالعودة إلى البيت فورا ، في عتبته استقبلتني هيبته ،ـــ يا لهف فِؤادي من هيبته ــــ وماهي إلا لحظات حتى تقاذفتني الأيادي، أيدي أبي المؤدّب وأيدي أخي "محمد رحمه الله" المخلّص.بكيت يومها كثيرا، بلّلت الدموع. وسادتي ، ولم يكفكفها إلا حنان "مدلّلي" أخي محمد الذي عاهدته على أن أطلّق طلاقا بائنا هوى اتباع الفرق الموسيقية
علاوة على حبي للموسيقى، كنت أهوى اللعب الذي كانت صرامة والدي تضبط وقته ،ولا تتمدد مدته إلا عند سفره أو عند زيارة جدتي والمبيت عندها ليلة الأحد . .
كنت أنتظر ذلك بشوق كبير،حيث لا أنسى مهارة جدتي في حكاية القصص منها قصة الملك" سيف ذي يزن"وقصة "احديدان الحرامي" نتجمع ونحلق حول المجمر، نحتمي بدفئه من لسعات البرد القارص، ونسرح بخيالنا في عالم سحر الحكايات .
كنت في طفولتي من "فتوات "حومتي، أغلب أصدقائي كانوا من الذكور .مرة يتيمة لعبت لعبة "العرسان"، كنت أنا العروس، أجلس رفقة عريسي الطفل وحولنا جمهور المدعوين للحفل.
في عرسي الطفولي ذاك، أعلنت تمردي، حيث أسدل علي أصدقائي وشاحا وعقدوه خلف رقبتي حتى كدت أختنق، نزعته وصرخت فيهم قائلة "لن أشخص بعد اليوم دور العروس " بعدها طلّقت عريسي وعدت إلى تقمص دور المنشط .
وشهر رمضان يحفّنا ، أحن إلى لياليه المقمرة حيث كنت ألهو مع رفاقي عند غياب والدي عن المنزل
ذات ليلة رمضانية قُرع باب بيتنا من طرف أصدقائي، لم أجب دعوتهم للخروج، فأبي موجود في المنزل وقراره معروف.حزنت .. لم أكتم غيظا وأنا أشاهد من شرفة المنزل الرفاق يلعبون ويمرحون ، ازداد غيظي لما سمعت قرع الطبّال وأصواتهم وهم يرددون لازمة رمضان الشهيرة : طب طب طبا ..............عجنوا المخمرة......
أشفق علي أخي محمد، أراد أن يسليني فما كان منه إلا أن سلمني قصة جرجي زيدان "العباسة أخت الرّشيد" استهوتتني القصة ، وبقراءة القصص عوضت لعبي مع الأطفال و التجول في حيّنا إلى التجول في قصور بني العباس وبني أمية.ومن يومها أدمنت المطالعة .
قبل ذلك كنت أقرأ قصص الكاتب "عطية الأبرا شي" التي كنت أحصل عليها من خزانة الفصل الدراسي وعبر اكترائها ب50 سنتيم من المكتبات العمومية ، زيادة على ذلك كنت أطالع المجلات العربية لا سيما مجلة "العربي" و"روز اليوسف" والجرائد الوطنية التي كنت أجلبها لوالدي من مكتبة الحي .
من شغفي بها كنت أتعمد التأخر في العودة إلى البيت حتى أقرأ أخبار المنتخب الوطني المتوج بالكأس الافريقية"سنة 1976"وأخبار نجمي المفضل "أحمد فرس " .
تواجد الكتب العربية في البيت جعلني عاشقة للغة العربية ومتفوقة فيها ، تفوق كنت لا أفرح به عندما يطلب مني أن أطوف على أقسام مدرستي الأولى وأنا أسوق تلميذا، أدمر نفسيته ــ بأمر من معلمي المربي ـــ أمام الملأ من أقرانه ،أقدم لهم بطاقة تعريفية بشعة لطفل بريء : هذا حمار .
قطار طفولتي لا بد له من التوقف بمحطة السرقة ،لازلت أتذكر سرقتي قطع الخبز والحلويات من مخزن مطبخنا. ففي يوم من أيام طفولتي المتوسطة، حال بيني وبين مبتغاي تواجد خالتي وأمي بالمطبخ ،لم أعجز حيلة، أعلمتهما بخبر موت أحد الأقارب ،صعدتا لإخبار أبي، بسرعة سرقت خبزا وخرجت أجري لكي أسلمه إلى بائع نبات "العسلوش" الذي سلمني بضاعتي ، أكلتها بنهم الميت من الجوع . .
سرقتي الحلويات لها شكل ثان ، فأمام فرن حينا كنت أظل متربصة صحبة صديقي الأثير "نعمان" رحمه الله بصينية الحلوى التي حملتها فوق رأسي ، حتى إذا ما نضجت ازدردنا بعضها ، ونسبنا أكلها جورا ل"المتعلم" قبل أن يفتضح أمرنا . .
لا أنسى أبدا جارتي "دونا /رحيل"اللتين كانتا تسكنان بجوار سينما "اسطوريا "، كنت أتوق لقضاء حاجتهما من عند البقال طمعا في كرمهما، إذ كانتا تغدقان علي بما لذ وطاب من مخبوزات وحلويات المطبخ اليهودي خاصة الرّقاقة " . .
أثناء طفولتي المتأخرة بدأت أذناي تلتقط أخبار السياسة التي كان يتداولها أبي وأشقائي، خاصة أحوال حزب ألاستقلال والاتحاد الاشتراكي ،وأخبار القضية الفلسطينية وحرب أكتوبر، وإلى اليوم ما تزال ترن في سمعي الأغنية القومية الشهيرة :" الوطن الأكبر"، وما يزال بصري يطارد مشهد اعتكاف أخي محمد في غرفته، حزينا بعد وفاة الرئيس" جمال عبد الناصر" . على شاشة التلفاز يوما كنت أتابع رفقة والدي تقريرا عن المجزرة الصهيونية في حق الفلسطينيين ،مجزرة "دير ياسين" أثارتني زفرات أبي ولم تتأخر مفاجأته لي بقوله :فلسطين موطن أجدادك ياحنان.
لم أكترث بما قال ولا بما وثّق كلامه، إلى أن وقع بأيدي كتاب "مدينة للعلم .. آل قدامة والصالحية " للمؤرخ السوري " شاكر مصطفى"،وثق فيه تاريخ هذه الأسرة المقدسية التي كان لها أثر واضح في تاريخ الفكر الإسلامي في العصر الأيوبي والمملوكي .
باقترابي من مرحلة الطفولة المتأخرة تغير طبعي، ودعت شقاوتي ، بدأ التدين يفرش لي طريقه ، شرعت في سلكها رويدا رويدا ،بتزكية من والدي الذي اصطحبني يوما معه إلى الزاوية الكتانية لإحياء ليلة القدر، تلك الليلة هالتني عيون مذبلة لشيوخ يمدحون رسول الله عليه السلام، لم أدر وقتها سر افتتاني بمشهدهم، تملكني الاستغراب وأنا أسمعهم يرددون بيت ابن الفارض :
شربنا على ذكر الحبيب مداما
سكرنا بها قبل أن يخلق الكرم. سألت والدي مستنكرة ؟: كيف لهؤلاء الشيوخ الركع يذكرون الخمر والسكر ونحن في شهر الصيام.؟ ابتسم أبي ،واستفاض في بيان وتبيين ما زلت أتذكره ، ونحن في طريق العودة إلى المنزل حمّلني أبي حلما عجزت عن تحقيقه لما كبرت، فخذلت حلمه وخذلت .حلمي
وهكذا مرت أيام وليالي طفولتي الحسان لتسلمني إلى كبر، لتلهو بي الحياة ،لتعصف بي مسؤوليتها ،وأجد نفسي أتحسر على ماضيّ الندي ، وأردد مع الشأعر الكبير عبد الوهاب البياتي : بالأمس كنا .......آه من كنا.........