الأمُّ :سيّدةُ الحُبّ والعطاء. مابين حَرفَينِ اثنين يختالُ جلالُها وحنانُها. أوّلُ الحرفينِ همزٌ قويٌّ مضمومٌ قُوّة ضمِّ واحتواءِ أحضَانِها. ثاني الحرفين ميمٌ مُرقّقةٌ، مُنسَابةٌ انسيابَ الرّحمةِ من حنايا قلبِها. . بجمعِ الحرفينِ ونُطقِهما يتطيّبُ اللّسانُ بطيبِ ذكرِ سيّدةِ الحُبّ :الأمّ. الأمُّ هي الأصلُ ومجمعُ الإنسان ، هي الوطنُ الأّولُ لكلّ كائنٍ جَنينيٍّ ،طعامُه من طَعامِها: ماؤُه من مَائِها ،ونَفَسُه من نفَسِها. نبكي عندما نفارقُ ذاك الوطنَ مُستقبلِين نورَ الحياة ،وتشتدُّ وطأةُ البُكاءِ عندما يُفارِقُنا "هُو" مُودِّعا ضيَّ الحياة . انبِهارا بعظمةِ الأُمِّ وقُدرتِها على العطاءِ أضفَت عليها ثقافةُ العصورٍ البدائية ومجتمعات ما قبل التّدوينِ صفاتِ الألُوهِية، إذ اعتُبِرت مصدَر الخلقِ، فقُدِّسَت و عُبِدَت وانتشرت ظاهرةُ "الآلهة الأُمّهات" ، فكانت "إيزيس "في مصر الفرعونية و"عِشتار" في بلاد الرّافِدين دون إغفالِ الثالوثِ الأُنثويِّ العربيِّ الشّهيرِ في شبه الجزيرة العربية: اللاّت ــ العُزّى ــ مناة ــ هاته الأخيرة التي سَفّهَ القُرآنُ الكريم ُعُقولَ عابدِيها، في مقابل ذلك مجّد ــ القُرآنُ ــ فضلَ الأمٍّ الحاملٍ لِنَبضِ الحياة والمُحتَضِنةِ لهُ في أطول احتضانِ أمُوميّ على الإطلاق ،احتضانٌ أتُونُ وجَعِه وآهاتُ ألَمِه لم تُر، لم تُسمَع من قِبل المُحتضَن فجعله اللهُ آياتِ تُتلى وقُرآنا يُتعبّدُ به : "حملتهُ أمُّهُ كَرها ووضَعتهُ كَرها وحملُه وفِصالُه ثلاثون شهرا " . . اللاّفتُ أنّ مشاهدَ السّخاءِ الأُمُومِي تتعددُّ ، منها مشهدٌ خصبُ العطاءِ، احتواهُ واد َميّت غير ذي زرع ــ مكة المكرمة ـ لا جناح يرّفُ ولاروح تخفقُ فيه إلاّ روح أمِّ خافقة ــ السيدة هاجر ــ تبحث عن الماء لرضيعها الظّمآنِ بين جبلي "الصفا والمروة "لِيتحَوّلَ سَعيُها النّابِضُ بالحُبّ والفِداءِ إلى رُكن من أركانِ الحَجّ.، يسعى فيه الحُجّاجُ كما سعت ، يدعُون كما دَعت ويرتوُون كما أروَت وارتَوت . وتأبى فلسفةُ اللُّغة إلاّ أن تُؤكّد عظيمَ مَنزلةِ الأُمّ الأصلِ الذي تلتفُّ وتجتمعُ حوله الفروعُ ... فمكة أمّ القُرى والفاتحةُ أ مُّ الكتاب والدّماغُ أمُّ الرّأس .ولا يكادُ يخلو استعطافٌ ولا استرحامٌ في ِكلامِنا من ذِكِر اسمِ الأمّ ، الاسمِ الكفيلِ بإسكاتِ الغضبِ عن المُستعطَف وهو ما يتجلّى في قول سيدّنا "هارون عليه السلام" مُخاطبا "سيّدنا موسى عليه السلام "يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " . الغريبُ أنّ اسمَ الأمّ حاضرٌ حتى في قاموس الشّتمِ والقَذفِ في مُجتمعنا، فلكي تكون الشتيمة أوجع وأحرج يتمّ غالبا اللّجُوءُ إلى المَسِّ بالمُقدّسِ :الأمِّ التي يٌوشّحُها الوجدانُ العربيٌّ بوشاحِ القداسَة .الأمّ ذاتِ الحُبِّ الذي لا تهدأ فَورتُه وذاتِ العطاء الذي لا ينقضِي دَينُهُ. خالصُ العزاءِ لكُلّ عَجيٍّ ،فاقدٍ لأغلى الأحبّة، ولو أنّهُ لا عزاء للعَجَايا ،وطّوبى لمن جنّتُهُ ـ أمُّهُ ـ بقُربه ...يَرتعُ في نعيمِها متى شاء،يَنهلُ من حنانِها متى شاء ويَستدفئُ بحُضنِها متى شاء .