البحث

الاديب غريب الغرباوي | الكوة و الثعبان

post-title

مازلت أذكر تلك الأصوات الرهيبة والحركات الرتيبة التي كانت تعتمل تحت سرير جدتي. كنت في تلك السنوات الثلاث أحب ملازمة جدي ليلا ، ذلك الرجل الصموت الذي كان يهصرني براحته كلما ربَّت على كاهلي الصغير، وكنت أحب سماع شخيره و هو يرتطم بالسقف فأشعر بتسلية غريبة، لكني ما كنت أدري أن حبي لجدي  سيمكر بي و يوقعني في كابوس ظل يلازمني بضع سنين. 
في السنوات الست الأولى كنت ألتذ بسماع تلك الأقاصيص التي كانت تندلق من فيه جدتي دون أن أطالبها بسردها، فمن عادتها أن تحكي عن زعارتها المشبوبة بنزوع رجولي لأنها كانت تملك معصمين ثخينين  تعروهما خدوش وجروح مندملة، وبعد أن تسكب الشاي تدنيهما إلى القنديل وتصيح كأنها تخاطب غرماء بعيدين قائلة :  
ــــــ بهذين اليدين يا بني، قتلت أكبر ثعبان في الدنيا !
و يهمزها جدي بعصاه لتكف عن الصياح ، تحدجه بنظرة مريبة ثم تحتمي بي لتتقي زغدة محتملة و تضيف :
ـــــ و كنت  أحمل كيسين من الشعير على كاهلي ولا أنوء بهما ،وعندما  مرض جدك حملته على ظهري من بيتنا حتى  "لالة شافيا" خمسة عشرة يوما حتى استوى على فراش الإبلال ، إيييييييه!
وتشرد جدتي وتمرق من حكاية إلى أخرى،وأنا لم أتسل إلا بحكاية الثعبان الذي  هصرته بيديها كما تدعى. أخرجت  القراءة من محفظتي،وبحثت عن الثعبان ،ثبتت سبابتي عليه , ثم أدنيت القراءة من القنديل،وساءلتها: 
ـــــ و الثعبان الذي قتلته, أكان بهذا الحجم؟ 
 أدنت رأسها إلى القنديل، وثبتت نظرة ساهمة إلى القراءة , ثم ندت عنها كلمات حانية بعد أن زفرت: 
ـــــ  أوليدي! إقرأ جيدا ، هي التي ستنفعك" 
لم تكن قد سمعت سؤالي، فحاول جدي أن يهمزها، لكن عصاه ارتطمت برجل الخوان الصغير فكاد القنديل ينقلب , اهتاجت وحرنت عليه كعادتها، أما جدي فنظر إليها بعينين مغرورقتين بكبرياء، تنحنح ثم تمخط على منديله الدبق، واهتاج هو أيضا ليكرر لها سؤالي الذي لم تسمعه، وعندما سمعته رنت إليّ حانقة، وكأن سؤالي نال منها، ثم مدت راحتيها، وجعلت بينهما ما يتسع لثعبان كبير ثم نبرت:
ـــــ قد هككا  فهمت؟!
قلت لها متوجسا :
- وأين كان الثعبان؟
انفتلت إلى الخلف وأشارت بيدها إلى النافذة الصغيرة,  وهي الكوة الوحيدة التي كان ينفذ منها الهواء و أشعة شمس تجود بها الظهيرة.
 قالت بوثوقها المعهود :
ـــــ دخل من هناك يابني وكنت..  
وما إن سمعت تلك الكلمات حتى أطلقت رجلي للريح ، يمّمت الدرج، وفي حنجرتي تتسكع ألف " ماما !" مكظومة . لكن يد والدي تطاولت بين تفاريج الدرابزين  فعاجلتني من قفاي. 
اقتادني إلى جدتي وأنا مضموم بين ذراعيه، كنت أخفي جزعي من ذلك الثعبان الذي دخل يوما من تلك الكوة اللعينة التي ماعدت شغوفا بالنظر منها إلى عرصة صغيرة يحتشد بها صبية حارتنا، بل بتّ أكرهها. وعندما حكت جدتي لوالدي وابن أختها عبد السلام قصة الثعبان الذي دخل من الكوة، تضاحكوا جميعا، بينما كنت أصارع الغصات المحرورة تعتصر حنجرتي وتهز جسدي النحيف.
حاولوا جميعا إيهامي بأنها مجرد خرافة، لكن هيهات! قلت في نفسي: "إنكم جميعا كذبة ومدلسون"، فحديث الثعبان الذي سمعته من جدتي قبل قليل هو ما كنت أحب سماعه زهاء ثلاث سنوات.
 وحرزت  شاردا : "لا بد أن تلك الأصوات التي أسمعها من تحت سرير جدتي هي أصوات ذلك الثعبان، وأن جدتي لم تقتل الثعبان بعد، إنها مجرد مدعية، ولهذا كان جدي يهمزها بمخاصه كما يهمز حمارنا  " كبور" , وأن جدتي أحبت ذلك الثعبان مثلما أحب أنا مسدسي المطاط، وقد حَشَرَته  تحت السرير، وعندما تنمحق الهمرجة من البيت يصدر  الثعبان تلك الأصوات وتلك الحركة الدائبة التي تظل حتى انبلاج الصبح".
 وما زاد يقيني أني فكرت في الجميع، أبي،أمي، جدي، جدتي وحتى عبد السلام ابن أخت جدتي، فاهتديت إلى شيء مهم : إن لكل واحد منهم رفيقا يحبه و يتسلى به، ولا يتخلى عنه أبدا . فجدي لا يتخلى عن معشوقته "الطابا" ينشقها كرات في اليوم,  و أبي لا يني عن سحب سيجارة بين الفينة و الأخرى من  علبة  ليعب  الدخان، وأمي بعد أن تتخلص من الطبيخ والغسيل تركن إلى زاوية قرب النافذة لتدير دولابا صغيرا لغزل الصوف، وحتى طفلهم الوحيد جعلوا له مسدسا مطاطا يلازمه , يرش به الماء على الصبية والغادين والرائحين. 
 الآن وقد تبينت لي الحقيقة وعلمت بأمر تلك الأصوات والجلبة الدائبة التي تحدث كل ليلة سبت زهاء ثلاث سنوات، قررت أن لا أبيت ليلة أخرى في حجرة جدتي ولو أصر جدي الذي دأب على سحبي من يدي أبي ليتسلى بي .الأمر لا يحتاج للمساومة والمداراة و لابد من التمرد والعصيان واختلاق المعاذير  التي تبعدني من ذلك الجحيم المكرور كل أسبوع. و لهذا قررت أن أفر إذا سافر أبواي إلى البادية لحضور زفاف ابن عمتي ففعلت.
 كنت مندسا بين أصحابي في عتبة الودراسي ، و كنت أصارع حزنا عميقا بين جوانحي بسبب سفر أبواي المفاجئ، والهول الكبير الذي سأكابده ليلة أخرى بكاملها، احتد ذهني فجأة وتوقدت عزيمتي وأنا أردد نشيدا طفوليا شائقا  كنا نتعاهده كلما التأمنا ـــــ نحن صبية الحارة ـــــ بتلقائيتنا العفوية. كنت أنظر ذات اليمين وذات الشمال، وأرنو إليها طويلا .فمنذ سمعت قصة الثعبان وأنا أكابد ,طي إهابي, هلعا من تلك الأصوات الرهيبة تُرجَّع أصداؤها بدواخلي ، تلك الكوة اللعينة التي نفذ منها الثعبان الذي يرقد منذ ثلاث سنوات تحت سرير جدتي ويصدر فحيحه الحزين ليلة السبت من كل أسبوع. اندس عبد السلام بحذقه المعهود  ثم سحبني إلى البيت ، وبدأ الجحيم في لفظ حممه اللاهبة. لو علم جدي بما نلته  من شتائم و ضرب من هذا المخادع و هو يسحبني إلى البيت لطرده من البيت، رغم  المراسيل  التي يأتي بها من " الدوار"  تزلفا لجدي . 
كنت  متأهبا لعضه  لأشفي غلتي وأمحق ذلك  الأوار الذي يعتمل بأعماقي، غير أن جدي عندما رآني، ومن فرط فرحه بي  استوفز   ليحضنني . لمحت تلك الابتسامة الموفورة بالود والحنين كتلك التي ألمحها في محيا جدتي عندما يكلح جراء  شوقها ولوعة انتظارها له عندما يتغيب في أيام الربيع في الدوار للإشراف على توزيع المحاصيل.
لمحت بريقا محزونا في مقلتيه التعبتين، ذلك البريق الذي ظل يلازمني حياتي كلها.دنا مني وانتصب أمامي حتى التهمني ظله ، بسلهام أحمر وعمامة بيضاء  يرقص عليها ضوء القنديل. وعندما اهتاج حتى بدأت ساقاه ترتجفان، ألقيت بي إليه فاحتضنني ،فنسيت لتوي ثأري من عبد السلام. أخذني إلى جواره وهمس: 
-افترش سلهامي واقعد جنب يا بني. 
كانت الكوة تلتمع بين الفنية والأخرى عندما ينبعث ضوء البرق الخاطف، وكنت ألمح أشباحا تتسلل عبرها وتنظر إليّ بشراسة. لم أقو على إخفاء وجلي فنظر إليّ , ثم ندت عنه فجأة كلمات حانية لتطييب خاطري: 
-  اسمع يا بني! أبوك وأمك سيعودان بعد يومين، تنام جنبي على هذا السلهام كالعادة .
و جالت بخاطري صورة عبد السلام  ,هذا الملثاث  الذي عانيت بسببه ضيوما كثيرة منذ أن حل بدارنا. فعندما ركبت خلفه على حمار جدي" كبور" همزه بقسوة بدبوسه فانتفض  و وقعت أرضا وشُجَّ رأسي بحجر ناتئ ، وعندما أرادوا  أن يختنوني هو الذي طاردني وأمسك بي حتى كادت أنفاسي تنمحق  و هو يحاول كظم زعيقي، 
و كبرى الدواهي هي التي كابدتها  في حياتي ولمَّا ينقضي عام:أعتى ثعبان في الدنيا يرقد تحت سرير جدتي. أتراه هو الذي يتحول إلى ثعبان ليلا؟!!                                      
بدأت أفكر  في الفرار إلى دار جدتي لأمي ،رمقت صندلي المطاط واهتاجت الرغبة بين جوانحي، غير أنني كنت لحظتئذ أخشى الاقتراب من الكوة التي دأب جدي على وضع صندلي تحتها وكان يقول لي:     
ـــــ  إنه يبعث رائحة تغثيني يابني! 
ثم يضعها تحت الكوة و هو  يخاطبني بلهجة أقرب إلى الهمس مشيرا بيده إلى الكوة: 
-   الرائحة الحرّيفة  التي تنبعث من هذا الحذاء تخرج من هنا يا بني. 
فكرت أن أرفع ستار السرير لكني أحجمت لسببين : الأول أن جدي يخشى أن يضيع منه شيء مما يختزنه ،أكياس قطاني، خضر، وتلك الصرة التي يلملم داخلها مسحوق الطابا ،إبر ومكوكان أبيض وأسود لترقيع ملابسه. والثاني أني كنت أخشى أن يداهمني الثعبان، فقد ينتفض ثم يلتهمني .
جمدت لصق جدي وأغمضت عينيّ فاستسلمت لوجل ليلة بكاملها, وهي الليلة الأولى التي انقطعت فيها آمالي كلها لغيبة أمي وأبي عن البيت. 
هل كان جدي يسمع تلك الأصوات الرهيبة؟ وجدتي التي لا يغمض لها جفن لحرصها على ما تحت السرير، أما كانت تلك الأصوات تزعجها؟ قدَّرت وأنا ما زلت طفلا غريرا، أن الكبار لا يعبئون ولا يعتريهم الوجل، وحتى ذلك المجنون "شلايدة" ،الذي يحمل على كاهله عشرات الصرر لم يعبأ بتلك الصرة التي حشاها أشراس حينا بجُرد كبير وقط يتصارعان داخلها ،ربط الصرة بالعروة الكبيرة ومضى الغريمان يتعاركان داخلها خلف كاهله وهو يهتاج ضاحكا. 
وأخيرا  أيقنت أن جدتي كانت تبتهج لتلك  الأصوات  التي تنبعث ليلا بين الصرر تحت السرير، وأنها كانت تزداد مسرة كلما ازدادت الأصوات جلجلة والحركة حدة لاسيما حين يعربد الليل في ليالي المحاق التي كانت تطول حتى أخال القمر قد مات كما نفق حمارنا "كبور" ذات ليلة شاتية، أو ربما التهمهما الثعبان.
حين عادت جدتي إلى البيت بعد حضورها "ملاك"  ابنة جارتنا سلامة  احتضنتني بحنو رهيب , وأجهشت ثم أخذتني إلى جوارها على السرير وخاطبتني بلهجة كسيرة: 
-  أنت تشبه عمك سلام تماما ! وفي مثل سنك افتقدته، مات بسبب بوحمرون اللعين. 
و اهتاجت باكية وهي تصيح :
-     وا سلام وليدي  ! 
ألهبت مشاعري بمخاوف لم أكن أعيها وقتئذ، و لأني لم أكن أعرف عمي سلام، لم أعره لوعة. كانت الغصات تعتصرني من الأعماق، وأنا أتلمظ خوفا من الثعبان الذي يرقد تحتي فزعقت  باكيا. كنت أرتعد وأتقلب، وجدي الذي وعدني بالحماية بات شخيره يرتطم على الجدران .كنت مثل السمكة التي تتلمظ على الزيت الساخن.لقد أيقنتني ليلتئذ أنني على وشك الموت وسألحق بعمي عما قريب، يلتهمني الثعبان  فور انبعاث شخير جدتي. 
عندما ولج عبد السلام الحجرة خلسة , كان يتلصص بناظريه متوجسا، كان يحمل كيسا بداخله أجساما ناتئة مثل البطيخ الذي يأتي به صيفا، رفع ستار السرير،و ركنه تحته، وأسدل الستار بحذق، ثم اندس في الفراش بين السرير و الجدار. 
كنت أكفكف دمعي وأكظم غصاتي  الحرّى، و كل الثعابين التي رأيتها في طفولتي تتضام أمام ناظري،وتبعث فحيحها حتى خلت أن شخير جداي وشخير عبد السلام هي أصوات ثعابين من نوع لا أعرفه بعد، واجتاحتني الكوات التي رأيتها في المقبرة، والبئر السحيقة التي ترقد لصق دار الصرصري بين القبور، وجسر "المجانين" الذي التهمه الطمي فاستحال كوة ترتعد لها فرائص صبيةالحارة و تفور بالثعابين و يعربد بينها الثعبان الأشعر، وحتى الحية التي فقدت ذيلها وترقد في حوافر البغال كانت تبصبص بعينيها كأنها تتوعدني. 
عندما بدأ الثعبان ينتفض تحتي راح يبعث صوتا أشبه بالأنين، غير أنه ما عتم انتفض بشدة، كنت أحس بالكدمات الرتيبة تؤزني من تحتي  . أيقنت أن الثعبان يكابد هو أيضا و يحاول أن يخرق الكيس الذي حشته جدتي فيه،وتنفست الصعداء  بعد أن برحني قليل من الضيم الذي اعتورني ليلة بكاملها وأنا أتفادى الكدمات التي كنت أخشى أن تغتالني من تحتي، فإنه إن يخرق المطارف الثخينة التي أرقد عليها أنا وجدتي فإنه حتما سيلتهمني كما كاد يلتهم ذلك العامل الذي كان يحفر الخندق فطوق رجله  ولم يجرؤ أحد على إنقاذه سوى جدتي. 
الآن فهمت كما يفهم الكبار الأشياء. إن جدتي قد أحكمت العروة بتروي تماما كما يصنع رقاصو الأفاعي في ساحة "المرينا ".
عندما بدأ ضوء الفجر يتسلل من الكوة أحسست بتعب يجثم على أجفاني، أغمضت  جفناي فاستسلمت للنوم  جراء الخوف والأرق اللذان طوقاني , ولم أفق إلا في اللحظة  التي كان جداي  يتصارعان مع القطط التي استطاعت لأول سبت ومنذ ثلاث سنوات أن تمزق الكيس بأنيابها ومخالبها، كانت  تتحرى منفذا لتفر ، ولم يكن هنالك سوى  تلك الكوة العالية، كانت  القطط  تتقافز إليها  وترتطم على الأديم وجدتي تتحراها بالملاءة الثقيلة.وأخيرا اندست تحت السرير 
و جمدت دون حراك، أشعلت جدتي القنديل وبحثت عن عصا جدي،طوقت عبد السلام بيدها  و حرنت عليه باهتياج بعد أن سدحته إلى الجدار وخاطبته بلهجة متوعدة : 
-   قل لي يا ولد الحرام، ماذا تصنع بهذه القطط؟ 
أجهش اللعين الذي أرعبني ثلاث أعوام دون أن يدري أحد وقال برجاء:
-  أقول لك يا خالتي كل شيء، لكن لا تضربيني أرجوك ، أبيعها في الدوار. 
تنحنح جدي، وطفق يكركر ضاحكا ، دحرج جسده من الفراش، ونزع يد جدتي من عنقه، وخاطبه بود: 
ــــ ابحث عن قططك يابني، وبعها في الدوار. 
كانت جدتي تتوعده بعقوبة، وتقسم بالأيمان الغليظة( الثلاث المثلث )أنها لن تغفر له. وبينا هو ينسخها بالعصا بين الصرر ليمسك بها، امترقت القطط الثلاث،وفرت هاربة بعدما فتحت لها الباب وخرج هو أيضا يتعقبها،ولم أره  في بيتنا منذ تلك الصبيحة.
 
غريب الغرباوي